هراطقة اليوم وهرطقة أيام زمان
د. صباح قيّاأعود إلى ستينات القرن الماضي وأنا ما أزال طالباً في كلية طب بغداد وأحد أعضاء " أخوية الشباب الجامعي المسيحيي " التي كانت ملتقى عدد من الطلبة الجامعيين المسيحيين , بغض النظر عن إنتمائهم القومي أو المذهبي أو المناطقي وما شاكل , مساء الخميس من كل إسبوع في كنيسة " أم الأحزان " الكائنة في الزقاق الشهير المعروف ب " عكد النصارى " في منطقة رأس القرية .... كان المطران الراحل , ألأب آنذاك " موسيس " الملقب ب " قس عنتر " مرشداً للأخوية يساعده المرحوم الأب " فيليب هيلايي " .... شاءت الصدف أن أدعم مداخلتي على الموضوع الثقافي لإحدى الإجتماعات بمختارات من الكاتب المبدع والشاعر الرقيق والفنان القدير " جبران خليل جبران " رحمه الرب ... وما أن أنهيت تعليقي حتى انبرى لي المرحوم " مرشد الأخوية " بنبرة انفعالية حادة وملامح متشنجة معقباً على ما قلت , بل موبخاً بحزم : كيف لي أن أستشهد بكتابات صادرة من " هرطوقي " ؟ ... بصراحة لم أكن أعرف ماذا تعني هذه الكلمة , ولا أبالغ إن قلت بأنها طرقت سمعي لأول مرة . ولكن بحكم " الحاسة السادسة " تراءى لي بأن هذه الصفة لا بد وأن تطلق على من يقف بالضد من الكنيسة كمؤسسة و / أو المسيحية كدين ... ورغم عدم تعمقي بأدبيات " جبران " بهذين الجانبين بالذات , إلا أنني لم المس من بعض مؤلفاته التي طالعتها غير التفاعل مع الخصائص النبيلة لجوهر الإنسان والتي تنسجم تماماً مع القيم المسيحية الواردة على لسان المخلص ورسائل تلاميذه ... تمالكت أعصابي الشبابية وتماسكت أمام هول المفاجأة مجيباً .. أبونا .. جبران كاتب لامع بشهادة كل المهتمين بالحقل الثقافي .. وحالاً تعالت أصوات قسم من الحاضرين تأييداً لما ذكرت ... وكي يبرهن , رحمه الله , بأنه لم ينل لقب " قس عنتر " إلا عن جدارة واستحقاق ... صرخ بنا جميعاً مؤكداً أن جبران ضمن قائمة الهراطقة مع " ميخائيل نعيمة " وآخرين من أدباء المهجر حسب تصنيف الكنيسة الكاثوليكية في روما , وأنه لن يسمح لأيٍ من الحضور مستقبلاً بالإستشهاد حتى بحرف مما جاؤوا به .... حينها ساد صمت الأموات تتخلله نظرات البعض للبعض الآخر , منها مشككة , أو متسائلة , أو مندهشة , أو ممتعضة , أو متهكمة وربما ساخرة ... كل عين تنطق بما يشعر صاحبها .
مرت السنون لتصل بي إلى العام الماضي وأنا أستمع إلى محاضرة لأحد رعاة كنيستنا الكلدانية التي استضافته " مجموعة دراسة الكتاب المقدس " في وندزر – كندا . كانت المفاجئة بالنسبة لي عندما اختتم الأب محاضرته بمقولة لجبران . إقتربت منه بعد انتهاء الجلسة متسائلاً : أبونا .. كيف تستشهد بمختارات من جبران والكنيسة تعتبره هرطوقياً ؟ ... سردت له ما أوردته أعلاه .. أجابني مبتسماً بأن ذلك كان من زمان , وأضاف بأن الكنيسة تعتز وتفخر بأدبياته . وأنه , شخصياً , أحد المهتمين والمعجبين بإصداراته ويقرأ له باستمرار ... سبحان مغيّر الأحوال .. أعترف بأني لم أقرأ أو أسمع بأن الكنيسة قد أسقطت تهمة " الهرطوقي " عنه . تذكرت وقتئذٍ إعلان البراءة الذي كانت تنشره الصحف المحلية أيام زمان لنفي التهمة الشيوعية عن صاحبها ومفاده " يتهمني البعض بأني من حملة الأفكار الهدامة , ولكني أعلن براءتي من هذه التهمة , وسأبقى مخلصاً للملك والوطن " ... ولكن " جبران " لم يعلن البراءة , بل بقيت أفكاره خالدة ليست داخل مؤلفاته وحسب , بل تنشرها أقلام الكثيرين من عشاق المعرفة ... ومن دون شك بأن للإنفتاح الكنسي المعاصر دوره الفعال في غض الطرف عن التصنيف الهرطوقي له ولأقرانه , بل ربما التراجع عنه رغم عدم إعلان ذلك جهاراً .
ما حل بالفيلسوف " جبران " سبق وأن ناله العديد من الفلاسفة والمفكرين وحتى العلماء . ولكن , للأسف الشديد طالت صفة الهرطقة وتبعاتها مجموعة لا بأس بها من اللاهوتيين المتميزين وأشهرهم " ألبطريرك نسطورس " . لا يمكن إنكار كونه من جهابذة اللاهوتيين رغم إختلافه مع لاهوتيي زمانه في تفسير طبيعة المسيح والذي أدى إلى ما آلت إليه الكنيسة آنذاك ولا تزال تعاني منه . ولو لم تحرق أو تتلف كتاباته التي تشير إلى مدى تعمقه وتبحره اللاهوتي لأغتنت الكنائس جميعها بالغزير من تحليلاته وتفاسيره لما جاء في تعاليم الرب ورسائل رسله . وبالرغم من هذه الحقبقة التي يعترف بها المنصفون , إلا أن ذلك لا يعني إسقاط صفة الهرطقة عنه كموقف شخصي من قبل أي من الآباء أو العلمانيين المنتمين للكنيسة الكاثوليكية الجامعة . ألقرار كنسي صدر من أعلى سلطة , ونقضه يتم من أعلى سلطة أيضاً . أما المواقف الشخصية من دعاة الكثلكة , خلاف ذلك , فإنها تدخل ضمن التلاعب بالعواطف وكسب الود , وعذراً إن قلت بأنها " كلمات حق يراد بها باطل " .
يتبادر الآن السؤال التالي : هل هنالك استعداد للسلطة الكنسية العليا تحقبق ذلك ؟ ألجواب كلا ونعم رغم كونه جواب محيّر . لماذا كلا ؟ ... قبل الإجابة لا بد وأن أذكّر بما جاء على لسان البابا القديس الراحل " يوحنا بولس الثاني " عن رايه في التفسير النسطوري بأنه " تعبير لفظي " . إذن لماذا لم ينقض القرار في حينه ؟ ... لو قام بذلك ماذا سيكون الموقف من " كرسي الإسكندرية القبطي الأرثذوكسي " العدو اللدود للنسطورية بدون منازع ؟ . لا أعتقد أن " كرسي روما " مستعد لهذه المجازفة التي لن يحسد على عواقبها إلا إذا تم التنسيق بين الكرسيين لتحقيق نفس الهدف وبذلك تكون الإجابة نعم .
إضافة إلى " ألهرطقة " التي تعني , حسب قاموس الكنيسة المسيحية , نكران أو التشكيك بجوهر عقيدة الإيمان المسيحي ممن سبق وأن تعمذ . هنالك تعبير " ألإنشقاق " ومعناه خرق منظم ومتعمد للوحدة المسيحية . وأيضاً " ألإرتداد " الذي يعرف بأنه الهجر الكامل للإيمان المسيحي ممن قبله سابقاً بكامل حريته .... لقد شهدت الكنيسة عبر تاريخها العريق كل هذه الأباطيل ولم تتوقف بل ربما تتفاقم في العصر الحالي ...
بصراحة ، مأساة المسيحية اليوم ليست في التفسير الإلهي ... من الذي تعنيه طبيعة المسيح وأقانيمه ؟ كم من الكاثوليك يستطيع الإجابة بدقة على ذلك وكم منهم يفهم اللاهوت والناسوت , وذلك حتماً ينطبق على مذاهب أخرى عدا البدع الجديدة الغارقة في الضلال والتي يتم توجيه أتباعها من خلال التلقين المبرمج ... مأساة المسيحية اليوم في هراطقة هذا الزمان ... نعم أنا هرطوقي ... أدخل الكنيسة كي تمحى خطيئتي وأخرج منها محملاً بالخطايا .. أنشر الكراهية بدل المحبة وأمارس النميمة بدل الصدق وأدعو للشقاق لا للإخاء ... أتناول القربان كتقليد بدون إيمان ... نعم أنا هرطوقي .. أصعد شماساً على المذبح وقلبي مملوء بالضغينة والكراهية ... أحيك الدسائس لأقراني من الشمامسة ... أقرأ المزمور وصفحة من تعاليم الرسل ولا أريد أن أفهم ماذا تعني كي أعيش الحياة على هواي ... نعم أنا هرطوقي ... لبست لباس الكهنوت وأعظ بما لا أعمل كي أطبق ما قيل " إسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أعمالهم " ... أبتسم لمن جيبه مثقلاً بالعملة الصعبة .. أقرّب من أشاء وأبعد من أشاء كي يقال نعم لما أقول والويل لمن ينطق بلا .. نعم أنا هرطوقي ... وصدق غاندي في قوله " ليست لي مشكلة مع المسيحية بل مشكلتي مع المسيحيين " ... ألا تباً لهراطقة اليوم وما أكثرهم وابعدهم عن الإيمان , ورحمة لهراطقة الأمس وما أقلهم وأقٌربهم للإيمان .